إن معنى شهادة أن محمداً رسول الله: تصديقه فيما أخبر.
فأي شيء يخبرنا به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصدقه، فإن لم نصدق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، معنى ذلك أننا ما شهدنا أنه رسول الله حقاً، وقد يخبرنا بأشياء تستغربها عقولنا، وأيُّ شيء عقولنا نحن؟ وماذا كانت؟ وماذا أغنت عنا هذه العقول قبل أن يأتينا هذا النور وهذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
ألم يكن عند العرب حكماء؟ كان عندهم شعراء، فكان زهير ينظم القصيدة من الحول إلى الحول، وتسمى الحوليات، كلها حكم وعبر، فلم تنفعهم هذه العقول والآراء والحكم، ولم تغن عنهم ولم تخرجهم من الظلمات إلى النور.
فالبعض -والعياذ بالله- يأتيه الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فيقول: هذا لا يصح في العقل, والعقل لا يصدقه!
فهذه العقول لا تغني شيئاً لمن لم ينقد ويسلم ويستسلم ويصدق بكل ما أخبر به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا أخبرنا عن الله آمنا بالله تبارك وتعالى، وإذا أخبرنا عن ربنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه ينزل في الثلث الأخير من الليل, ويقول هل من داع, هل من سائل, هل من مستغفر، آمنا وصدقنا.
وإذا أخبرنا أن الله تعالى فوق العرش استوى -كما في القرآن- آمنا وصدقنا.
وإذا أخبرنا أن النار حال أهلها كذا وكذا، وأن الجنة فيها كذا وكذا، آمنا وصدقنا.
وإذا أخبرنا بأن القبر إما نعيم, وإما عذاب, وبيِّن وفصِّل لنا ذلك، وكل شيء وصل إلينا عن رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقول: آمنا وصدقنا.
وإذا أخبرنا بما رأى ليلة الإسراء والمعراج, فلا يحصل لدينا أي اعتراض, حتى الذباب أخبرنا أن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء، فلا نقول: هذا ناقل للجراثيم، وكل الجراثيم من الذباب، ولا يصح أن أحد جناحيه دواء، إن من قال ذلك فليعلم أنه لم يؤمن ويصدق، فلا بد أن يقول: آمنا وصدقنا.
والمهم أن يصح عنه أنه قاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أما إذا كان الحديث ضعيفاً أو موضوعاً أو مكذوباً، فهذا لا نؤمن به؛ لأنه ليس من كلامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ولكن إذا ثبت أنه من كلامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنؤمن ونصدق به، وبكل ما يخبرنا به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهذا تصديقه فيما أخبر.
وأما طاعته فيما أمر: فلا يأمرنا بأمر فنقول: لا نستطيع.
ومثلما ذكر الشيخ أن بعض القضاة والمفتين وهذا كان في تلك الأزمنة حيث كان القاضي منهم يحكم بما أنزل الله؛ ولكن يخالف بعض الأحكام, ويقول: المذهب عندنا كذا، فتقول له: الحديث صحيح, فيقول: لكن المذهب يقول كذا، سبحان الله العظيم! هذا كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي وإمام المذهب لولا اتباعه له ما كان إماماً, ولا صاحب مذهب، ثم يأتي أتباعهم فيتمسكون بالمذهب ويتركون الحديث!
لكن هذه أخف على ما فيه ممن جاء بعدهم.
حيث جئنا في العصور المتأخرة -والله المستعان- نشهد أن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن أصبح التحاكم ليس من الشرع بالكلية, فالمذاهب وإن كان فيها مخالفات أو أخطاء، لكنها مستمدة من الشرع.
أما الآن فأصبح التحاكم إلى القوانين الوضعية، كقانون نابليون.
ونابليون هذا ليس رسولاً جديداً، ولم يدع أنه رسول أو مصلح أو مفكر أو محقق، لكنه رجلٌ أصدر قانوناً -ومن أحكام نابليون بعد الثورة الفرنسية- ونابليون هذا نصراني, لكن الثورة الفرنسية كما نقرأ لها -مع الأسف- يقولون: باريس عاصمة النور، ويقولون: الثورة الفرنسية فجر الإنسانية وهي التي أعطت الإنسان حق الإنسانية, وحرية الإنسان, وهذا من آدابها, ومن أخلاقها.
فمن أحكام نابليون أن الزنا من حق الزوج، أما في النصرانية فالزنا حرام, والعقوبة عليه الرجم في التوراة، والتوراة هي شريعة النصارى مع اليهود، فشريعتهم واحدة.
أما نابليون فقال: الزنا من حق الزوج، بشرط أن يكون الزنا على فراش الزوجية، أي: في بيت الزوج، فإذا زنت الزوجة خارج البيت فليس للرجل حق.
ثانياً: إذا سمح لها بالزنا فهذا من حقه, وإذا لم يسمح لها تغرم أو تسجن لمدة معينة.
ومع الأسف أن أكثر الدول التي تدعي أنها تحكم بالإسلام, وتدعي أنها تشهد بأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الأحكام والقوانين الوضعية فيها على هذا الأساس، وهو أن الزنا حق للزوج، ولا يوجد فيها رجم أو لا جلد.
فنحن هنا -مثلاً- نسمع عن الرجم والجلد، لكن في دول أخرى كثيرة -إن لم تكن جميعاً- لا تعرف رجماً أو جلداً أو أمراً من أوامر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يتعلق في هذا الأمر.
فالمسألة مسألة حرية شخصية، فإذا استغاثت المرأة بالشرطة فهذه تغاث, وتكون الدعوى دعوى اغتصاب فقط، وهذا يعاقب، وعندهم عقوبات معينة. أما إذا كان بالتراضي فالأمر مباح.
فهذه هي شريعة نابليون.
فإذا طبقها شخص, وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, فإنه لا يكون شاهداً ولم يشهد -والعياذ بالله تبارك وتعالى- الشهادة, لأن شهادة أن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقتضي وتستوجب وتتضمن وحقيقتها؛ أنها تصديقه فيما أخبر, وطاعته فيما أمر، وذلك بإقامة دينه صلوات الله وسلامه عليه, والتحاكم إليه وحده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وإلى شرعه وسنته:
((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً))[النساء:65].
وهناك من يحكِّم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكن في نفسه حرج.
فمثلاً: رجل ملتزم بالدين ويقول: لابد أن تبقى المرأة في البيت, وتحتجب عن الأجانب, وهذا هو الدين، لكن في النفس بعض الاستنكار, ويود لو كان الحكم غير هذا, فهذا هو الحرج، وكثير من الناس فيهم هذا.
مثلاً: إذا علم أنه لا يجوز أن تبعث المرأة للدراسة وحدها في الخارج, فيلتزم بهذا الأمر, ويقول: آمنا بالله تبارك وتعالى وسلمنا لحكمه, ولكن النفس فيها شيء، فهو يقول: إنه في عصر الحضارة وعصر التقدم, فهل من المعقول أن نقول المرأة والمرأة..؟
وكذلك الربا يقول بعض الناس: آمنا أن الربا حرام، فلن نضع أموالنا في البنوك الربوية, ثم تجده يقول: لكن الاقتصاد والحياة المتشابكة والأوضاع العالمية.
فهذا الذي يطيع وفي قلبه حرج هو لم يشهد حق الشهادة؛ بأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكيف بالذي لم يذعن ولم يطع: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ))[النساء:65] ولا يكفي أنك تحكمه، بل لا بد أن ينتفي الحرج من نفسك، فقال في آخر الآية: ((وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ))[النساء:65] أي: انقياد تام لا مدافعة أو منازعة أو معارضة فيه.
فإذا قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً، فنقول: انتهينا, ولا يوجد أي نقاش. وتعذر بالواقع، ولا يقول: علم النفس, أو علم الاجتماع, أو خبراء الاقتصاد، فلا ننظر إلى هذا كله أبداً ما دام قد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وليقل غيره ما يشاء.
حتى في تربية أبنائنا, قالوا: لا تضربوا الولد, فالمدرس في كثير من المدارس إذا أتى بعصا يعاقب, لأن التربية الحديثة عندهم -التربية نوعان: التربية القديمة والتربية الحديثة، فالتربية القديمة تشتمل على العصا والإرهاب في جملة وسائلها الجديدة- تشتمل على ديمقراطية وانفتاح وحرية.
وإذا قلت لهم: الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر}.
قالوا: التربية الحديثة تقول: إن الضرب غير صحيح في التربية مطلقاً، فيكون هذا الشخص مقتنعاً بأن الحديث صحيح، ثم تجده يقول: عندي مشكلة المسائل الحديثة, والدراسات الحديثة, وعلماء النفس الحديثين, وعلم الاجتماع الحديث، سبحان الله! هل هذا كله يساوي ذرة أمام كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! والله لا يساوي شيئاً، لا في الأخلاق كما مثلنا بما يتعلق بالمرأة, ولا في الأحكام كما مثلنا بالزنا.
وكذلك في الآداب العامة, فلا يمكن -حتى في الهدي الظاهر- أن يكون هناك هدي أهدى من هديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يجوز أن نعارض هديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً، فعندما يأمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإعفاء اللحية, وإحفاء الشوارب -مثلاً- فلا نقول: لا بأس هي من الدين، ثم نبدأ نعلل ونتعذر عن التطبيق, فهذا هو الذي في نفسه حرج, ولم يسلم ويذعن، ولو أقر بأنه صادق، فيجب أن يقر ويذعن, ولا يبقى في نفسه حرج, ويسلم تسليماً بأن سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -في اللحية, أو السواك، أو تقصير الثوب، وأي عمل آخر- هي خير وبركة، وإن كان الإيمان الباطن هو الأساس، ولا شك في ذلك, ولا نطالب بالهدي الظاهر دون الهدي الباطن، ولا أحد يطالب بذلك من المؤمنين أو من الدعاة.
وبعض الناس يقول: لكن البعض يأخذ الشكليات والقشور، وهذا خطأ، فالإسلام كله لب، ولا يوجد فيه قشور، فكله لب وكله يؤخذ، وإنما فيه ظاهر وباطن، والإيمان الباطن أفضل وأعظم، وهذا معنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {التقوى هاهنا} ولكن الإيمان الظاهر واجب, ولا بد منه, ما كان منه واجباً, وما كان منه مستحباً بحسب الأحكام، لكن تركه بالكلية علامة على ضعف أو نقص أو فقدان الإيمان الباطن.
إذاً هديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أكله, ونومه, وثيابه, وفي سمته, ومظهره، هو أفضل وأكمل هدي، وهو الذي يقتدى به ولا يقدم عليه قول أو رأي أحد, ولا هدي أحد، ولا اجتهاد أو اقتراح أي إنسان كائناً من كان، حتى وإن كان من خيار الناس, وابن عباس رضي الله عنه يقول: [[يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقولون: قال أبو بكر وعمر]] فأفضل الناس في هذه الأمة بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هما أبو بكر وعمر، ومع ذلك لا يجوز لأحد؛ إذا قيل: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو حدّث أحد عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, أن يقول: لا أبو بكر قال: كذا, أو عمر قال: كذا، فكيف بغيرهم مثل الأئمة الأربعة, أو أي إنسان كائنا من كان! ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)) [الحجرات:1] فالكلام كله كلام الله ورسوله, والهدي هدي الله ورسوله, ولا كلام لأحد مع هذين.
فمعنى شهادة أن محمداً رسول الله: تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.